للجماهير.. دمعة اتحادي تحولت تميمة للدوري

للجماهير.. دمعة اتحادي تحولت تميمة للدوري

كيف لا يرتجف قلبه مع كل تمريرة، وتغرق عيناه في الهتاف، وهو الذي نسج من حب الاتحاد حياة امتدت لـ33 عامًا؟

ذلك المساء لم يكن عاديًا، كانت دموع المشجع الاتحادي في مباراة الاتحاد والرياض، حديث الصحافة والإعلام. بعدما تناقل الاتحاديون التبريكات بالانتصار الأول بعد ثلاث تعادلات بنتيجة 1-1، كان الفيديو المؤثر للمشجع المتفاعل لحظة تسديد صالح الشهري لركلة الجزاء في الدقيقة 101 هو ما سرق الأضواء. دموع بندر كانت تنهمر بحرارة، وفي لحظة خاطفة، تحولت من دموع توتر وخوف إلى دموع فرح وفخر وولاء لا يتزعزع.

لم يكن في المدرج مجرد مشاهد عادي، بل كان يعيش كل ثانية بكل ما فيها من شغف، يرتجف، يتمتم، يحبس أنفاسه وكأن قلبه نفسه هو الكرة. وعندما انفجرت الجوهرة فرحًا بالهدف، كانت الكاميرا تلتقط مشهدًا عفويًا لمشجع يبكي.. دموع خرجت من عمق الانتماء، من حب لا يفسَّر، سرعان ما اجتاحت صورته مواقع التواصل الاجتماعي كالنار، والكل يسأل: من هذا الرجل؟

بندر غندر، يبلغ من العمر 44 عاما، لم يسعى يومًا للظهور، لم يعلم أن صدق مشاعره سيكون حديث الناس، ولم يتوقع أن لحظة من قلبه ستكون بداية علاقة مختلفة. فما هي إلا ساعات، حتى تواصل معه مهاجم الاتحاد صالح الشهري، صاحب الهدف من نقطة الجزاء، بكل محبة وتقدير، أهداه قميصه قائلاً له: “أنت تستحق.” كانت لحظة أكبر من مجرد إهداء، كانت لحظة تصنعها الروح، ويكتبها الوفاء، ويجمعها الشعار الذي ألّف بين مشجع ولاعب في لحظة خالدة من أجمل لحظات الاتحاد.

بندر وصالح الشهري: لقاء اللاعب والمشجع بعد اللقطة الشهيرة

بندر لم يكن مشجعًا عابرًا، بل اتحادي من زمن الطفولة، من بيت كانت كل زاوية فيه تشجع فريق مختلف، يقول: ” الوالد -رحمه الله- كان يشجع الوحدة، والوالدة نصراوية، وأخي هلالي، وأخواتي يعشقن الأهلي، لكنني اخترت الاتحاد بقلبي، بلا تأثير، بلا ضغط، لكنني كنت أرافق أبناء خالتي لمباريات الاتحاد، عشقت أهازيج المدرج الأصفر والأسود.”

ويؤكد: “الاتحاد اخترته، ما ورثته، ما جاني بالإجبار، جاء بإيماني بالاتحاد.”

بندر غندر مع محمد نور أسطورة الاتحاد

أول ذكرى له مع الاتحاد كانت نهائي الدوري أمام الشباب، خسر الاتحاد بركلات الترجيح، وكان طفلًا صغيرًا يعجز عن فهم لماذا غضبت الجماهير، لكنه شاركهم الألم. كبر بندر وكبر معه الشغف، حتى أصبح يرتدي شعار الاتحاد في المدرسة، وينام بقميصه.

أول مباراة حضرها كانت ودية أمام الإسماعيلي، لكن الطعم لم يكن ودي، كان طعم الفرحة نادرًا، شعور بالانتماء، يقول: “شعرت أن المدرج حضني. لكن اللحظة اللي ختمت العشق كانت نهائي آسيا 2005، عندما فاز الاتحاد بخماسية في كوريا، تلك كانت لحظة التوقيع على عقد العشق الأبدي.”

الاتحاد بالنسبة له لم يكن مجرد نادٍ، بل كان نافذة تفتح له أبواب بينه وبين الناس والعامة، باب للتواصل الاجتماعي، للكتابة، للتعبير، للتحليل، كان من ضمن المؤسسين لصحيفة إلكترونية اسمها “أتي تايقرز” في الفيس بوك، وكتب في المنتديات، وأصبح له حضور إعلامي في القنوات، حتى عندما أصبح “ترند” لم يكن غريبًا عن الواجهة، كان مستعدًا، مثقفًا، مشجعًا يعرف قيمة ناديه وقيمة نفسه.

بندر غندر مشجع اتحادي

لم يبكي ضعفًا في تلك المباراة، بل كان يبكي حياة، لأن الاتحاد بالنسبة له ليس مجرد فريق، بل تفصيل من تفاصيل يومه، هو الهوية، هو الأمان، هو التاريخ، وكل خسارة تذكره في وجعًا قديمًا، وكل فوز يضيء في داخله مدينة. يقول: “عندما خسرنا من الهلال 3-1 بداية الموسم، شعرت بانكسار عميق، لوهلة بدأت الشكوك تتسلل لقلوب الجماهير.”

لكنه لم يترك مكانه في المدرج، لأن الوفاء لا يتزعزع في وجه الرياح. بقدر ما حمل قلبه من حزن، عاش لحظات فرح لا تُنسى، لحظات خُلدت في ذاكرة بندر كأنها مشاهد من فيلم لا يملّ من إعادته.

كان أحدها تلك الليلة المضيئة في “المملكة أرينا”، عندما انتصر الاتحاد على الهلال في نهائي كأس الملك. صوت الجماهير، ضوء الكاميرات، وصرخات الفرح التي اخترقت سماء الرياض… كلها كانت تقول شيئًا واحدًا: اتحاد.

ولم تكن تلك اللحظة الوحيدة. في جدة، على أرضية ملعب الجوهرة، وبينما عقارب الساعة تلاحق نهاية المباراة، انفجرت المدرجات فرحًا بهدف قاتل ضد النصر في الدقيقة الأخيرة. يومها، شعر بندر أن الجوهرة نفسها ترقص، أن الملعب يهتز تحت قدميه، وكأن الكون كله يردد معه: اتحاد.. اتحاد.

ومع مرور الوقت، تغيّرت نظرته للاعبين. كان في البداية لا يؤمن في حسام عوار، لم يقتنع به تمامًا، خاصة في ظل بريق أسماء مثل بنزيما وبيريرا. لكن الكرة لا تعترف بالحكم المبكر. شيئًا فشيئًا، بدأ عوار ينسج لنفسه قصة في قلبه، هدفًا بعد آخر، تمريرة بعد تمريرة… حتى أصبح من اللاعبين المفضلين لديه.

وساهمت الأرقام في تثبيت هذا الإيمان الجديد. 12 هدفًا سجّلها عوار هذا الموسم، 5 منها جاءت بعد الدقيقة 90. تلك ليست أرقام لاعب عادي، بل لاعب يعرف كيف يُصنع المجد في اللحظات التي يظن فيها الجميع أن كل شيء قد انتهى.

حسام عوار

وفي أواخر العام 2016، قرر غندر الحصول على إذن محدود الوقت من أجل الاحتفال مع الاتحاديين في جدة أمام أتلتيكو مدريد الإسباني بمناسبة مرور 90 عامًا على تأسيس النادي.

قطع غندر أكثر من 11 ساعة جوية ذهابًا ومثلها إيابًا؛ لأنه يؤمن أن حب الاتحاد لا يمكن تأجيله.

قصصه كثيرة، منها موقفه الطريف في نهائي آسيا 2004، عندما لم يستطيع دخول الملعب بالرغم من أنه يملك “تذكرة” لكن جماهير الاتحاد الغفيرة كانت قد ملأت المكان، فقرر تسلق الشجرة وقفز من خلف الملعب الساعة الـ 2 ظهرًا، والمباراة كانت في الساعة الـ 9 ليلاً. الطريف أنه قفز ووقع أمام مجموعة من العساكر فأثناء حضورهم دورة تدريبية لتنظيم الجماهير والحشود، رقت قلوبهم له، وقال له أحدهم: “تعال تعال”، وأدخله؛ لأن حتى الناس خارج الاتحاد تعرف أن اتحادي زي بندر لا يُرد.

جماهير الاتحاد الوفية

الاتحاد غيّره، قربه من الناس، جعل من اسمه أيقونة، وصورته محفوظة في قلوب مشجعين كثير. وأصبح في كل مره يسأله أحد ما: “تبكي على فريق؟” يرد بثقة: “الاتحاد ليس فريق عادي، الاتحاد حياة. كرة القدم تستنزف مشاعر أقوى الناس، وقد رأينا ولي العهد -حفظه الله- كيف فرح مع الشعب السعودي عندما فاز المنتخب على الأرجنتين، ما بالك بمشجع عادي لكنه عاشق.”

بندر برفقة أبنائه: توارث حب الاتحاد بين الأجيال

في لحظة هدوء تسبق العاصفة، كان بندر يقف على أطراف المدرج، يراقب كل شيء بعينٍ تعرف الاتحاد جيدًا، لا تهتز مع الخسارة، ولا تنخدع ببريق الانتصار. كان الوقت مناسبًا، ليس للوم، بل للحديث الصادق… الحديث الذي لا يعرف المجاملة.

نظر إلى أرض الملعب، وكأن اللاعبين أمامه، وخاطبهم بلهجة الواثق العارف:

“أنتم تمثلون نادٍ شعاره رقم واحد. نادٍ لا يرحم المتخاذل، ولا ينسى المخلص. قاتلوا لتدخلوا تاريخ الاتحاد.”

توقف للحظة، كأن الكلمات تراجع نفسها قبل أن تنطق. ثم تابع، بنبرة نابعة من قلب امتلأ بهذا الشعار لسنوات:

“الاتحاد؟ ليس مجرد نادٍ تنتمون له. هو المعيار، هو المقياس الحقيقي لقيمة اللاعب. الاتحاد هو القيمة، هو الإضافة لأي لاعب. من يدخل هذا الكيان، لا يضيف له، بل الاتحاد هو من يضيف للجميع، يرفع اسمه، يثقل موهبته، يصقله تحت ضغط المدرج، ويمنحه جماهيرية لا تشبه سواها.”

ثم التفت ناحية المدرجات، حيث القلوب النابضة، وحيث المعنى الحقيقي للوفاء. هناك، وجّه رسالته بكل فخر:

“أنتم الصورة الحقيقية لجمال الكرة السعودية. جمهور يفهم كرة القدم، حاضر وقت الخسارة قبل الفوز. وعيكم هو الفرق، صوتكم هو السلاح، وولاؤكم هو السبب في استمرارنا. واصلوا الحضور… أنتم الأفضل.”

ومضى، لا يبحث عن تصفيق، بل يترك خلفه أثرًا من وعي… ومن عشق لا يُنسى.

هذا بندر غندر، لم يرفع صوته إلا في مدرج، ولا تنزل دمعته إلا لعلم أصفر وأسود، واسم من خمسة حروف: اتحاد.

بندر غندر.. من عالم العمل والالتزامات إلى مدرجات الاتحاد

هو الشاب الذي رغم مكانته الاجتماعية، رغم التزاماته، لم يتردد يومًا بفتح قلبه، يهتف، يصفق، يصمت حين يجب، ويتكلم حين يريد. يرى في كل مشجع اتحادي أخ له، وفي كل مباراة ساحة وفاء، لا يتغيّب عنها مهما كانت النتيجة.

يؤكد بصوت يملؤوه الإيمان: “نحن الاتحاد، لا نخذل ولا نُخذل، في وقت كان الاتحاد مهدد بالهبوط كنا 45 ألف عاشق بالمدرج، في الفوز نهتف حتى تتعب حناجرنا. لا نرد على إساءة؛ لأن الرد موجود في جمال المدرج الاتحادي، في الطرب، في الهيبة، في رقص الأعلام، في لحظة الهدف، وفي الجنون الجماعي بعد صافرة النهاية.”

لا يهدأ له بال، ولا يكتمل له يوم، إلا عندما يطمئن أن الاتحاد بخير.. وإن المدرج عامر، وإن العشق ما يزال كما كان. بندر هو حكاية مشجع علّمنا أن الحب ليس بالصوت العالي، بل بالثبات.. علّمنا أن المدرج وطن، وأن الاتحاد أكثر من مجرد نادٍ، إنه حياة تُعاش كل يوم، وقصة تُروى بكل فخر.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *